المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة الكوخ الذي هرب إليه بن علي



احمد العتيبي
10-18-2012, 02:02 AM
قصة الكوخ الذي هرب إليه بن علي


عبد الرزاق قيراط *
الاربعاء , 17 تشرين اول 2012 -01:20


http://www.deretna.com/vb/attachment.php?attachmentid=59190&stc=1&d=1350479656
بن علي



أصبحت قناة حنبعل متخصّصة في زيارة القصور التي تركها المخلوع للترويح على الشعب التونسيّ أو للتنغيص عليه بحسب ما يتبع ذلك من التعليقات التي ينشرها الفقراء والأغنياء كلّ بطريقته. الزيارة الجديدة عبرت بنا إلى قصر سيدي الظريف وهو حديث البناء، وفخامته تفوق ما رأيناه سابقا في قصر قرطاج على نفس القناة وفي نفس البرنامج (الصراحة راحة) الذي يقدّمه المنشّط سمير الوافي.


طاف بنا المنشّط مشكورا على طوافه في أرجاء قصر الرئيس السابق متحسّرا على ما أنفِق فيه من الأموال التي حرم منها الشعب. فقد فهمنا من تعليقاته أنّه حريص على قُوتِ الشعب وأمواله المنهوبة، فذكر لنا بدقّة العارفين أثمان بعض البدلات التي كان بن علي يقتنيها من أشهر دور الموضة الإيطاليّة. وقال إنّ إحصاءها لا يبدو ممكنا. وكانت حسرة الوافي بادية في نبرات صوته الجريح وهو يحدّثنا من زوايا ذلك البناء. بينما تساءلتُ شخصيّا كيف يمكن لإنسان سويّ أن ينام ويغمض له جفن في مثل تلك الغرف الفسيحة شديدة الفخامة. ولنا في رئيسنا المثقّف المنصف المرزوقي مثل نضربه، فقد نأى بنفسه ورفض النوم في أحد أجنحة قصر قرطاج نظرا لفخامته الفاحشة. وقرّر أن يهجر ذلك القصر ومضاجعه في عطلات نهاية الأسبوع ويلجأ إلى بيته المتواضع في سوسة.


ولقد علمت من مصادر مطّلعة (كما يقال في مقدّمة الأخبار الخطيرة) أنّ بن علي شكا في السنوات الأخيرة من الأرق وعبّر عن رغبته في نومة لذيذة كتلك التي ينعم بها فقير في نهاية يوم شاقّ. ولمن لا يعرف شدّة الأرق وبطشه بصاحبه فعليه أن يشاهد فيلم "معالي الوزير" حيث أبدع الفنان الراحل أحمد زكي في أداء دورٍ لوزيرٍ فاسدٍ يعاني من الكوابيس التي تحرمه من النوم. ولكنّه استطاع أن ينام بعمق في مسجد صغير يقع بقرية هادئة بعيدة عن القاهرة. ومن عجائب الصدف أنّ قصر بن علي يحتوي، بالإضافة إلى المسابح والحمّامات وقاعات الرياضة ومرافق العلاج، على مسجد للصلاة أو للنوم بحسب الحاجة. وكما استعان أحمد زكي أو معالي الوزير بأحد معاونيه ليجد له طريقة ينام بها نوما طبيعيّا، استعان بن علي أيضا بكلّ حاشيته لنفس الغرض، ولكنّ مصادرنا الموثوقة لا تؤكّد لنا إن كان معالي الرئيس تناول الحشيش لتحقيق ذلك الهدف كما فعل معالي الوزير في الفيلم فحبسه المأمور خطأ وحَسَنًا فعلَ، فقد نام الوزير في السجن نومة هانئة.


وعلى أيّة حال فالناس حين ينامون يستوون، فالنائم على الحرير كالنائم على الحصير، والنوم هو الموت الأصغر لأنّ "اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".(الزمر 42).


ولنا في أبيات الشعراء ما يغني عن بيوت الأغنياء. لذلك تسلّحتُ بشعر جبران وأنا أقنع ابنتي المراهقة التي غرّها ما رأت في جناح حليمة ابنة الرئيس، فذكّرتها بأغنية فيروز (أعطني الناي وغنّ) حيث يقول جبران:



"هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور
وتتبّعت السواقي وتسلّقت الصخور"،



إلى أن يذْكُر لنا غرفة نومه في ذلك المنزل الجميل فيضيف:



"هل فرشت العشب ليلا وتلحّفت الفضاء
زاهدا فيما سيأتي ناسيا ما قد مضى".



فهل كان بن علي زاهدا في الدنيا لينام، وهل كان قادرا على نسيان ما ارتكبه من جرائم منذ كان وزيرا للداخليّة حتّى يغمض له جفن.؟ ‘لست أدري’ كما يقول شاعر آخر، ولكنّ أحدهم نصحه بأن يهجر قصوره ويبحث له عن مكان متواضع يخلد فيه إلى الراحة المنشودة.


الكوخ الذي لجأ إليه بن علي



وهكذا اجتمع الوزراء والناصحون فأشاروا علي معالي الرئيس بمكان وحيد في الجمهوريّة التونسيّة حيث سينام نوم الأطفال. قالوا له عليك بالجزيرة. لا نقصد طبعا الجزيرة القطريّة التي ستقضّ مضجعه وتراكم كوابيسه وتعجّل في سقوطه. ولا نقصد جزيرة جربة التي غزتها السياحة والسيّاح ، ولم تعد مكانا يطيب فيه العيش حتّى لأهلها، إلاّ من اتخذ مكانا قصيّا عن صخبها وازدحامها.


كانت الجزيرة المقصودة هي قرقنة التي أنجبت مناضليْن كبيريْن من زعماء الكفاح الوطنيّ والنقابيّ هما الشهيد فرحات حشاد الذي سقط برصاص الاستعمار، والراحل الحبيب عاشور الذي عاصر بورقيبة وشاكسه على مدى حكمه، وكانت قيادته للاتحاد العام التونسي للشغل نضالا مريرا أدخله السجن كما جلب له الاحترام من كلّ أنحاء العالم. وبسبب تلك المشاكسة دفعت جزيرة قرقنة الثمن باهضا فحُرمت من كلّ مظاهر التنمية، وظلّت لعشرات السنين خالية من كلّ المشاريع الممكنة بما في ذلك المشاريع السياحيّة. ومازالت إلى اليوم على نفس الحال رغم اكتشاف الغاز والبترول في برّها وبحرها. وتلك خيرات لا نعرف من يقبض ثمنها.


ومع ذلك، وبسبب الإهمال الحكوميّ المتعمّد أو بفضله، ظلّت الجزيرة على طبيعتها، واشتهرت عند زوّارها ومكتشفيها بوصفها ملاذا من زحمة العالم وضغط المدنيّة الحديثة. حتّى قال عنها الكاتب المغربيّ محمّد بنيس في كتابه (العبور إلى ضفاف زرقاء):


"كانت لحظة النزول إليها شبيهة بالنزول في زمن بدء الخليقة، سكان وزائرون يقطعون البحر لينتقلوا إلى زمن منسيّ، وبمجرّد وطء أرض قرقنة، داهمتني نفحة غريبة، ومن داخلي أحسست بابتسامة تصعد ثمّ تحملني خفيفا. وأنا الراكب لا أبتغي وصولا إلى مكان ما… من أيّ نفس نشأت هذه الجزيرة؟ لا تسأل عن الزمن هنا".


لم يقرأ بن علي هذا الكلام الجميل عن مسقط رأسي، حيث أقضي عطلة الصيف، "بين جفنات العنب والعناقيد تدلّت كثريّات الذهب". ولكنّ أحدهم كشف له ذلك السرّ، فقرّر أن يغزو الجزيرة صحبة عصابته، من الطرابلسيّة الذين فكّروا لاحقا في الاستحواذ على قرقنة وتحويلها إلى مقاطعة خاصّة بعد تهجير سكانها بمخطّط مافيوزيّ لم ير النور بفضل الثورة التي اندلعت.
وعوض أن يقيم بن علي يوما أو بعض يوم، استمرّت الزيارة أيّاما، فسكنت أسرته ومرافقوه في أجنحة رئاسيّة أنشئت على عجل داخل فندق صغير متواضع قبالة البحر، بينما فضّل "معالي الرئيس" الإقامة في كوخ بناه فلاّح من سكّان الجزيرة، حيث ساعدته بساطة المكان وأنفاس الطبيعة العذراء على النوم (باعتباره موتا أصغر). وقد اقتضت حكمة الخالق أن يمدّ في أنفاس بن علي وأقرانه من الحكّام العرب ليشهدوا يوم خلعهم من السلطة، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب.


أحبّك يا شعب


ما أبعد الثرى عن الثريّا، وما أبعد الشريد بن علي عن الشهيد حشاد فالأوّل ترك قصورا خاوية على عروشها، والثاني ترك قولا مأثورا وعملا مأجورا حين هتف أمام التونسيين "أحبّك يا شعب"، راية لا يعرفها ولا يرفعها المتناحرون على الحكم في تونس اليوم؛ حيث نشاهد فصلا جديدا من فصول الصراع على السلطة بين من يحكمون ويرفعون راية "الشرعيّة الانتخابيّة" ومن يعارضون ليحكموا وقد خرجوا علينا ببدعة "الشرعيّة التوافقيّة". ولأنّ المعارك كثرت، والنفوس كلّت، نذكّر هؤلاء وهؤلاء بشعب ثار من أجل الكرامة والحرّيّة ومازال يبحث عن يد ترفع راية حشاد وتحوّل صرخته المدوّية في الآفاق "أحبّك يا شعب" إلى عمل يصدّق ذلك الخطاب.


أما بعد


"أما بعد"، عنوان لبرنامج جديد شاهدناه على الوطنيّة الثانية، يقدّمه الصحفيّ نصر الدين بن حديد، بلون مختلف وطعم مغاير لما يطبخ لنا في كلّ يوم على فضائياتنا التونسيّة. كانت إطلالته الأولى ناجحة إلى حدّ بعيد، وإذا استمرّ بذلك الخطّ ، فإنّه سيحدث في المشهد الإعلاميّ توازنا كنّا نفتقده بعد أن سيطرت أصوات تفتقد إلى النزاهة والموضوعيّة على أغلب القنوات العامّة والخاصّة.


* كاتب تونسي