المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحشاشون والخوارج والإرهاب



احمد العتيبي
06-27-2011, 07:41 AM
الحشاشون والخوارج والإرهاب (http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=126348&issueno=8702)




في ليلة الأحد 11 ذي القعدة 571هـ 1176م، كان القائد صلاح الدين الأيوبي على موعد مع رسل الموت من الحشاشين، فبينما كان في خيمة الأمير الكردي (جاولي الأسدي) قائد أركانه، وهما يستعرضان الخرائط الحربية ضد الصليبيين، اقتحم الخيمة شاب مفتول العضلات وكأنه جني لخفة حركته يلمع في يمناه خنجر هوى به على رأس صلاح الدين، ولكنه كان محظوظاً فقد صدم النصل المسموم الزردية من الحديد التي تغطي رأسه فأدرك المجرم أنه أخطأ هدفه فقام بتوجيه طعنة إلى الخد فجرحه وانقض الضباط الأكراد على الرجل فقتلوه. وخلال لحظات كان ثلاثة من الشبان يتدافعون إلى الخباء بنفس الطريقة من التدريب المتقن على القتل المنظم فقتلوا العديد من الجنود والضباط قبل أن يقعوا صرعى في محاولة الاغتيال المدبرة بغاية الدهاء والجرأة.

وينطق التاريخ مرة أخرى عن دور الصدف في صناعة التاريخ فلو مات صلاح الدين في تلك المحاولة لما تم تحرير القدس ولم تكن لتقع وقعة حطين عام 1187، ولو مات بريجينيف الزعيم الروسي وكان شيخاً مدنفاً لما تم اجتياح أفغانستان عام 1980، ولما انخرط الشباب الإسلامي في مقاومة الروس في حرب أمريكية وهم يظنون أنهم يقاتلون في سبيل الله. ولما تحولت افغانستان الى بؤرة لتصدير العنف لكل العالم. ولما ولد ابن لادن ليضرب أبراج نيويورك، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

جرت محاولة اغتيال صلاح الدين الأيوبي في إعزاز القريبة من حلب وحاكم المدينة (كمشتكين) يتصل بريموند الثالث حاكم طرابلس الصليبي وشيخ الجبل (سنان راشد الدين) للتخلص من صلاح الدين الأيوبي.

ولم تكن هذه المحاولة الأولى من نوعها التي يتعرض لها صلاح الدين، فقد ذكر قدري قلعجي واقعة شكّك فيها عندما استطاع الفدائي حسن الأكرمي التمكن من الدخول إلى مخدع صلاح الدين في القاهرة، وترك قرب وسادته خنجراً مسلولاً مغموساً بالدم مع الكلمات التالية: «اعلم أيها السلطان المغتصب أنك وإن أقفلت الأبواب ووضعت الحرس، لا تستطيع أن تنجو من انتقام الإسماعيلية. أراك قد بلغت القحة واستبددت دون أن تحسب حساباً لشيخ الجبل الإسماعيلي الذي يقف لك بالمرصاد، ولو أردنا قتلك الليلة لفعلنا، ولكن عفونا عنك لعلك تقدّر ذلك، وإننا ننذرك لتصلح من سيرتك وتعيد الحق المغتصب إلى ذويه، ولا تحاول أن تعرف من أنا فذلك صعب عليك وبعيد عنك بُعد السماء عن الأرض، إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك أو زوجك وأنت لا تدري.. والسلام».

والكلام الذي جاء في الرسالة يجب فهمه ضمن البانوراما التاريخية، فأن يعيد صلاح الدين الحق إلى ذويه يعني إعادة الخلافة الفاطمية التي أنهاها في مصر بعد حكم دام قرنين من الزمن، ليعيدها إلى خليفة عباسي لا يزيد عن ظل شبح زائل وسلطان يذوب بأسرع من الآيس كريم في صيف لاهب من الأحداث.

إن اللغة الإنكليزية ما زالت تحمل الرنين المرعب لكلمة الاغتيال (أساسين) Assassination، وهي كلمة مشتقة من عندنا من حفلات الرعب والدم التي نسبت الى طائفة الإسماعيليين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد من خلال حركات سرية من مثل تنظيم الحشاشين الذي وصفه القلعجي بأنه تحول خلال «مائة سنة إلى عصابة سرية فريدة من نوعها في التاريخ مدربة على القتل المنظم. ولا همّ لها أو غاية سوى الاغتيال وبث الذعر ونشر الإشاعات المخيفة». حتى كانت نهايتها كما تنتهي كل فكرة بالانتحار الداخلي وتتحول إلى طائفة (Cult)، تعيش في ذاكرة التاريخ.

إن تاريخنا مليء بالفظاعات والدماء وثقافة الاضطهاد ونشوء الحركات السرية المسلحة ولم تكن فرق الحشاشين الوحيدة فقد سبقتها للقتل المنظم المروع جماعات من الخوارج في ظاهرة تحتاج أن توضع للتشريح التاريخي هذه الأيام والعالم الإسلامي يعاد بناؤه بعد أحداث سبتمبر. إن قراءة التاريخ مفيدة جدا وهي تعطي وعياً خاصاً بالدراسة المقارنة وحقلاً خصباً لفهم الإنسان ونشوء المجتمع وأمراض الثقافة.

إن كل حدث هو في علاقة جدلية بين الماضي والحاضر، فهو نتيجة لما كان قبله كما هو سبب لما سيأتي بعده. وهذا القانون في جدلية الأحداث وترابطها يجعلنا نستوعب أمراض مجتمعاتنا الحالية أنها تركة ثقيلة من أيام الماضي. وفي الوقت الذي استطاع صلاح الدين استيعاب «الحشاشين» وتوظيفهم للهدف الأسمى بتحرير المنطقة من الصليبيين غصنا نحن في مستنقع دموي حتى الذقون.

وهناك من يظن أن غلاة الحشاشين أصبحوا في ذمة التاريخ، وأن غلاة الخوارج أصبحوا في بطون الكتب، ولكن حركات الإسلام السياسي أحيت امثال هذه الجماعات تحت كلمة الجهاد بدون جهاد، واليوم تنتعش عظام أبي حمزة الخارجي في قبره، فقد أحيا شباب الجزائر وأفغانستان ومناطق شتى من العالم الإسلامي مذهبه بكل قوة، كما أن «الحشاشين» استبدلوا قلعة آلاموت في جبال مازندان بجبال خوست، والتاريخ كما يقول نيتشه يحكمه قانون العود الأبدي.

في عام 1070، اجتمع ثلاثة من العباقرة في جامعة نيسابور ضمتهم غرفة واحدة فيها يأكلون وينامون ويتدارسون هم عمر الخيام ونظام الملك والحسن الصباح، وكان الثالث أشدهم دهاء. وفي يوم قال الحسن الصباح لرفيقيه: يا شباب يبدو أننا في طريقنا للوزارة، فماذا تقولون ان نتفق أن من وقعت في حضنه تفاحة السلطة أذاق رفيقيه شيئاً من حلاوتها. قال الآخران اتفقنا. وكان اتفاق ترتبت عليه لعنة للمنطقة. وتقول لنا الأيام إن مصير الثلاثة كان متبايناً، فأما نظام الملك فقد قفز إلى كرسي الوزارة عند مغامر قفز بالحصان العسكري على رقبة الخليفة العباسي وأمسك بالحكم وهو السلجوقي ألب أرسلان. وأما عمر الخيام فقد انصرف لشعره وخمره وفلسفته العدمية التي أطبقت عليه من ظلمات الوضع العربي في تلك الأيام، بعد أن أمّن على معيشته بـ 600 دينار شهرياً خصصها له القصر الملكي. أما الثالث الحسن الصباح فكان طموحه غير محدود، وحاول منافسة زميله نظام الملك على كرسي الوزارة فاحتدم صراع مصيري بين الرجلين كاد الصباح ان يدفع عنقه ثمنا له ففر لينشئ تنظيماً فولاذياً سرياً بعد اتصاله بالإسماعيليين والتدرب على أيديهم. واستطاع الوصول إلى شيخ الجبل وهو عبد الله بن عطاش الذي أعطاه أسرار الجماعة وأموال الإسماعيلية.

وقام بعدها بتطوير العمل على نحو عبقري، حيث رأى أن العمل السري المسلح لا يحتاج لجيوش كثيرة بل عناصر قليلة حسنة التدريب شديدة الولاء الى حد العبادة وبتنظيم خاص غير قابل للاختراق ينتشر مثل انتشار السرطان. وبعدد محدود من صغار الشبان الذين يتم غسل أدمغتهم بالتعصب والحشيش.

وكان الرجل قد اكتشف مادة الحشيش في مصر فرأى فيها فرصة ممتازة للشباب، حيث يتم سقيهم بالحشيش حتى الخدر اللذيذ ثم ادخالهم عالماً خاصاً يذكر بالجنة من الأنهار والفاكهة والحور العين يطوف عليهم الغلمان كأنهم لؤلؤ مكنون. فإذا استيقظوا أوكلت لهم المهمات الانتحارية. وكانت عناصر «التنظيم» على ثلاث طبقات، «الدعاة» وهم القادة الحزبيون، ثم طبقة «الرفاق» وهم المشرفون على تنفيذ الاغتيالات وفي القاعدة القذائف الانتحارية «الفدائيون» من الشباب المدربين على الموت في سبيل شيخ الجبل. وعندما حاصر ملكشاه السلجوقي أحدى قلاع الإسماعيليين أرسل الحسن الصباح مجموعة من الفدائيين أغمدت الخنجر في صدر صديق الأمس نظام الملك. ودشنت هذه الجريمة كما يقول القلعجي «عهداً جديداً في تاريخ الشعوب الإسلامية ظل الاغتيال فيه سلاحاً سياسياً طوال مائة عام».

وبقي الحسن الصباح أكثر من عشرين سنة في حصنه آلاموت (عش النسر) «ينظم الدعوة ويؤلف الكتب ويدرب الجيوش ويعلم الشبان ويحيك المؤامرات ويرسل الفدائيين لقتل الأمراء والوزراء والحكام من خصوم الإسماعيليين بالخنجر المسموم».